الأحد، 25 مارس 2018

الدراما التاريخية التركية .. كلاكيت ثاني مرة

عودة مرة أخرى إلى موضوع الدراما التاريخية التركية وأهميتها بالنسبة للمُشاهد التركي والعربي أيضاً والمُسلم بصورة عامة, وتناول بعض المؤاخذات والآراء النقدية لهكذا أعمال درامية مُهمة وافتقارها للمصادر والمراجع التاريخية الموثقة, والاعتماد على عامل الإثارة والإبهار في مُحاولة لجذب الجمهور وإرضاء شغف المشاهد بالقصص البوليسية والأكشن والمُغامرات والتقنيات الفنية الحديثة في عالم الانتاج السينمائي والتلفزيوني.

فالأعمال التاريخية سواء كانت في السينما أو التلفزيون حساسة وخطيرة أيضاً إذا ما حُرفت وتم العبث والتزوير في أحداثها التاريخية, فالذاكرة الجمعية للمُجتمعات أصبحت مرئية أكثر منها مكتوبة, ولا بد من العناية والتدقيق في إنتاج هكذا أعمال درامية تاريخية مُهمة, لأنها ستكون بمثابة توثيق وأرشيف مرئي لتاريخ الدول والشعوب, ولا بد من تكليف لجان خاصة تُشرف على تدقيق النصوص التاريخية قبل إقرارها كمشاريع درامية ثم عرضها على الجمهور كمُسلسلات.

وقد يرى البعض – وأنا منهم – أن نهج المُسلسلات التاريخية يختلف تماماً عن منهج الأفلام الوثائقية المحكومة بالسرد التاريخي والعرض الأرشيفي الصارم, لأن المُسلسلات بحاجة إلى خيال ومُبالغات والمزيد من البهارات والأكشن, من أجل إمتاع الجمهور والتخلص من الأجواء الرتيبة في عروض الأفلام الوثائقية وترفيه المشاهدين لكي لا يشعروا بالملل.

وهذا التبرير قد يصح في حالة عدم المساس بالخط العام للمسار التاريخي وعدم التلاعب بمواقف الشخصيات الحقيقية بحجة خلق جو بوليسي لجذب الجمهور, فيمكن للمُخرج إضفاء نوع من التشويق والحبكة الدرامية دون العبث بمُجريات ووقائع الأحداث التاريخية أو خلق شخصيات وهمية قد تجعل الكثير من المُشاهدين يظن بأنها شخصيات حقيقية, وأن ما يُشاهده من خيالات المؤلف وشطحات المُخرج هي أحداث واقعية وتاريخ حقيقي.

وما يهمني أنا كباحث تاريخي ومُهتم بأحداث المنطقة وتاريخ الدولة العثمانية الذي امتد لعدة قرون شاملاً جميع أجزاء المنطقة العربية, هو التوثيق التاريخي الصحيح والدقيق للعمل الدرامي خاصة أحداث ما قبل المائة عام الماضية, لأن مصادر تلك المرحلة متوفرة ومحفوظة سواء كانت في أرشيف الدولة العثمانية أو في الأرشيف البريطاني, ناهيك عن شهادة الكثير ممن عاصروا تلك الفترة القريبة والتي وثقوها بالكتب واللقاءات التلفزيونية.

وشخصياً أرى أن تاريخنا العربي المُعاصر كعرب هو لصيق بتاريخ الأتراك ولا يُمكن فصله ولا الفكاك منه مهما حاول البعض أن يتبرأ ويتنصل من ذلك التاريخ, فقد قُدر لمنطقتنا العربية أن تُحكم من قبل الدولة العثمانية على مدى سبعة قرون, وخلال تلك الفترة حافظ التُرك على الهوية الإسلامية ونافحوا بضراوة عن الإسلام والمُسلمين, وذلك بعد أن تفتت دولة الخلافة الإسلامية بزعامتها العربية ككيان موحد مُمثلاً بالدولة العباسية.
وعليه فإن ما يعرضه الأتراك اليوم من دراما تاريخية, لنا فيها كعرب ومُسلمين جزء كبير من الحضور سواء  كان من ناحية الشخصيات أو الأماكن التي حوتها تلك الأحداث ودارت عليها رحى تلك المعارك, وأرى أن من حقي أنا وغيري الخوض في صناعة تلك الدراما التاريخية وانتقاد بعض السيناريوهات المكتوبة على عجل سواء كان في مُسلسل – السلطان عبد الحميد الثاني – أو كذلك في مُسلسل – كوت العمارة – الذين يتم عرضهما حالياً على القنوات التركية.

وأما بالنسبة لمُسلسل – قيامة ارطغرل – فأنا لن أخض فيه من الناحية التاريخية كما وضحت في مقالي السابق, وذلك لأن أحداث هذا المسلسل قد جرت قبل حوالي 700 عام؛ حيث كانت ولادة بطل تلك الأحداث في عام 1281م, وعليه فلا مجال هنا للجدال والتظير في ظل شح المصادر التاريخية, ولهذا يمكن لكاتب السيناريو أن يُضيف ويتلاعب بالأحداث كما يشاء.

وأنا سبق وأن أشدت بهذا العمل الدرامي الذي جاء بعد موجة درامية مُنحدرة غزت القنوات العربية, وفجأة ظهر لنا مُسلسل تاريخي تركي رصين ومُحتشم أيضاً, فكان عبارة عن انقلاب ثقافي وفني في مسيرة الدراما التركية, التي تعودت على صناعة وتسويق الدراما التجارية الرخيصة, التي تستهدف المراهقين بدغدغة مشاعرهم من خلال سيل المُسلسلات الخالعة وإنتاج مُسلسلات تاريخية مشوهة شبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة, كان القصد منها تغريب المُشاهد العربي والإمعان في تشويه تاريخ المُسلمين وترسيخ الفكرة الغربية السلبية السائدة عن الإسلام والمسلمين.

فجاء إنتاج مُسلسل – قيامة أرطغرل – ليشكل بمثابة الصفعة الموجهة لتلك المُسلسلات التجارية الهابطة, ولهذا كف الحريصون ألسنتهم عن انتقاد هذا المُسلسل خاصة من ناحية تسلسل الأحداث التاريخية, وقالوا لا بأس فلتكن الأحداث مُبالغ فيها ومُحوّرة لأن تلك الفترة كانت قديمة والجمهور عادةُ بحاجة لعناصر التشويق والأكشن, – رغم أنه واجه حملة انتقادات وهابية كالعادة – مع هذا فقد نجح هذا المُسلسل نجاحاً باهراً ومازال يحصد الملايين في نسبة المُشاهدين. لكن ماذا عن بقية المُسلسلات التاريخية الأخرى التي جاءت بعد مُسلسل - قيامة أرطغرل - والتي تم انتاجها على عجل بعد أن اجتاح مُسلسل أرطغرل القنوات الفضائية التركية والعربية أيضاً, فهل لاقت نفس النجاح ؟

وهل تعلّم أصحاب صناعة الدراما التركية هُم والقائمون على هكذا مُسلسلات تاريخية من الأخطاء السابقة, وهل تجاوزوا بعض الهفوات الفنية التي وقعت في مُسلسل أرطغرل ؟

الجواب: للأسف لا, حيث زادت الهفوات والأخطاء التاريخية, وبدأت تلك المُسلسلات تطبخ على عجل من أجل التسويق التجاري والربح المادي الصرف, وباتت عملية إنتاج المُسلسلات في تركيا شبيهة بعملية سلق البيض, كما أن المؤلفين الأتراك لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث والتنقيب عن المصادر والمراجع المُتعلقة بتلك المراحل التاريخية المطروحة فنياً, والاعتماد على حكايات وأساطير محلية غير موثقة, ثم إضافة بعض البهارات والمُغامرات المُستوردة والمنسوخة من أعمال أمريكية ركيكة.

فبدؤوا يركزون فقط على عامل التشويق والقصص البوليسية ومُطاردات الجواسيس وحل ألغاز الجرائم وإفساد المؤامرات, كأننا أمام اجترار لأفلام جيمس بوند البالية والتي كانت في وقتها مُبهرة لكثير من الجماهير المُغيبة, أو أننا أمام سلسلة جديدة من روايات أجاثا كريستي البوليسية, ولا أدري ما الذي يجعل مخرج تركي يعيش في القرن الحادي والعشرين ويفترض به أنه قد اطلع على كثير من التجارب السينمائية العالمية ثم تجده يجتر تجارب هوليوود المُبتذلة في بداية القرن العشرين !؟

المفروض بكل مُخرج سينمائي في هذا العصر الرقمي المتطور أياً كانت هويته أن يتجاوز الأعمال الاستشراقية التقليدية القديمة, خاصة تجارب هوليوود الرخيصة في بداياتها حول المشرق ونظرتهم للعربي المُلثم قاطع الطريق, وأن يبدأ من حيث انتهى الآخرون, لا أن يسير على نفس خطاهم من أجل أن يحصد المال ويكسب رضا بعض الجمهور الساذج.

صحيح أن تلك الدراما تتناول فترات زمنية هي بحدود المائة عام أي بداية القرن العشرين, ولكن لنُذكر مُخرج عمل "كوت العمارة" مثلاً؛ أن مدحت باشا حينما كان والياً على العراق قد أقام سكة الترام - الذي تجره الخيول - في بغداد عام 1869م, ولم تكن بغداد ولا سكانها في تلك المرحلة عبارة عن بيئة صحراوية قاحلة ومناخ للإبل وعبارة بدو مُلثمين كما ظهروا في المشاهد التي ظهرت في هذا العمل.

صورة أرشيفية لبغداد في العهد العثماني.

وقد يرى البعض أن التجربة التركية الحديثة في إنتاج الدراما التاريخية هي تجربة واعدة تستحق الدعم والتشجيع والوقوف بجانبها, لا انتقادها والتقليل من شأنها, لأن هذا قد يؤدي إلى تقويض الهمم وإفشال التوجه الدرامي الجديد ومن ثم العودة إلى الدراما التجارية الرخيصة, وهذا الكلام غير صحيح تماماً, لأن تشجيع الأعمال غير المُكتملة والمشوهة يعني المُشاركة في الهدم وتخريب الذوق العام.

وهل الغرض من الإنتاج الدرامي للحوادث التاريخية هو نوع من الترويج والبروباغندا والتباهي بحوادث ذلك الزمان والبحث عن تحقيق أهداف سياسية, أم التوثيق الصحيح للتاريخ والتعلم من أغلاط وأخطاء الماضي؟

فلا شك أن دخول الدولة العثمانية للحرب العالمية الأولى كان خطأ تاريخي كبير ولا يُغتفر, ومن اتخذ هذا القرار الكارثي كانوا ثلة عابثة من العسكر المُنقلبين وبعض المُغامرين والانتهازيين, ولا يُمكن بأي حال من الأحوال تمجيد هؤلاء الانقلابيين, كالثناء مثلاً على أنور باشا كما جاء في مُسلسل "كوت العمارة".

ولكن هل هذا الموقف يعني أو يُبرر لللآخرين التآمر والاصطفاف مع العدو الغازي وهم البريطانيين؟
قطعاً لا, فتلك خيانة عُظمى أشد من خيانة من قرروا دخول تلك الحرب وتعريض أمن البلاد والعباد للخطر وجلب الكوارث للشعوب التي مازالت لحد الآن تدفع أثمانها.

ثم هل يتحمل الجيش العثماني المُسلم أخطاء قادة الإتحاد والترقي الكارثية ؟

بالتأكيد لا, فهؤلاء جنود شرفاء خاضوا حرب دفاع مُستميتة كان قد تسبب بها غيرهم, لكنهم وقفوا الموقف الصحيح وضحوا بدمائهم الزكية في سبيل حماية تخوم الدولة ورد العدوان الغاشم, ولهذا يستحقون الثناء والتخليد في المعارك التي خاضوها بإخلاص رغم أخطاء من ورطوا البلاد والعباد في تلك الحرب الكونية.

إذن عملية النقد البناء مُهمة جداً في كافة المجالات, والتطرق لأخطاء الماضي وطرحها بشفافية على الجمهور أمر صحي وحيوي, خاصة وأننا نتحدث هنا عن تلك المُسلسلات التي كلف انتاجها الملايين من الدولارات والتي تلاقي دعماً وتشجيعاً من قِبل الحكومة, فكان يُمكن أن تظهر بمظهر أفضل بكثير مما ظهرت عليه خاصة من ناحية توثيق الأحداث التاريخية الصحيحة والتطرق للشخصيات الحقيقية, وكان يمكن أن تحصد أفضل الجوائز العالمية لو كانت تلك الأعمال رصينة ودقيقة بما يكفي, وعليه فإني أرى وجوب عرض أي عمل درامي تاريخي, مثل  مُسلسل – السلطان عبد الحميد الثاني – و مُسلسل – كوت العمارة – على لجنة مُختصة من أساتذة التاريخ الأتراك وخاصة الخبراء منهم في تاريخ وثقافة المنطقة, قبل البدء في تصوير أي مشهد, وبعد إقرار تلك الأعمال وتصحيح السياق والأحداث التاريخية فيها يتم المُباشرة في إنتاج هذه المُسلسلات التاريخية, بل ويجب دعمها وتمويلها من قِبل الدولة نفسها.

فمهما بلغ المؤلف التركي أو العربي من حرفية وأسلوب روائي جميل فلا يمكنه أن يخوض في الأحداث التاريخية المُهمة دون القراءة والإطلاع والخبرة في هذا المجال, ولن يستطيع أي موظف أو مُشرف سينمائي أو تلفزيوني على تلك الأعمال الملحمية تقييم عمل المؤلف إلا من خلال لجنة مُختارة من الأساتذة المُتخصصين في هذا الشأن, وخاصة الخبراء في هذا المجال من ذوي الاختصاص بالفترات والمراحل التاريخية.

وسوف أتناول بعض المُلاحظات والمُؤاخذات البارزة على مُسلسلي – السلطان عبد الحميد الثاني – و – كوت العمارة – لأُدلل للقارئ الكريم على أن عملية الإبهار في دقة التصوير والديكور والملابس الزاهية لا تكفي لنجاح أي مُسلسل تاريخي ما لم تكن تلك الرواية السينمائية والحبكة الدرامية للأحداث أو توثيق السيرة الذاتية لأي شخصية مُهمة مُعبرة ورصينة ومُقنعة للمُشاهد الحصيف والمُطلع على مسيرة الأحداث التاريخية.

مُسلسل السلطان عبد الحميد الثاني :

المُسلسل كما ذكرت هو مُبهر جداً من ناحية التصوير والإضاءة والديكور وملابس ذلك العهد, وأيضاً البراعة في اختيار وتجهيز الأماكن الخاصة بتصوير تلك المرحلة التاريخية المُهمة في الأستانة, كاستخدام محطة القطار القديمة والعربات التي تجرها الخيول, وإظهار  أُبهة قصر  يلدز في طراز البناء والحدائق والأثاث واختيار الملابس الزاهية والأنيقة للسلطان وحاشيته وحرس القصر, وكان هذا مُمتازاً ولا خلاف عليه إطلاقاً, ولكن ماذا عن سياق وتوثيق أحداث سيرة ومسيرة حياة السلطان عبد الحميد الثاني؛ طفولته, شبابه, نضوجه ثم كهولته ؟
وماذا عن موقفه من الانقلاب على عمه السلطان عبد العزيز وخلافه مع حسين عوني باشا ومدحت باشا, ونشوء جمعية تركيا الفتاة ومن ثم ظهور جماعة الإتحاد والترقي؟


الصدر الأعظم مدحت باشا في أواخر أيامه.

وأين هو دور الماسونية وتغلغلها في المجتمع النخبوي التركي؟ فقد تبني عدد كبير من البشوات لهذا الفكر, بل كان السلطان المخلوع مُراد قد تفاخر بعلاقته بالماسونيين.
الحقيقة أن سياق الأحداث في هذا المُسلسل كانت تعتمد على أسلوب المغامرات وأحياناً تنحى منحى فكاهياً كما هو الحال مع شخصية محمود باشا (زوج سنيحة أخت السلطان غير الشقيقة – شقيقة مراد) وكذلك الأمر مع ولده صباح الدين الذي لم يكن هو الآخر بتلك العبثية والتفاهة كما ظهر في المُسلسل, حيث كان صباح الدين ضمن أعضاء جمعية تركيا الفتاة, وكان على قناعة وإيمان بضرورة التغيير الديمُقراطي (حسب قناعته), مُتأثراً بأفكار أستاذه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم, وقد عاد لاحقاً هو وشقيقه لطف الله من بروكسل مع رفات والدهم بعد خلع السلطان عبد الحميد, وقد استقبلهم الجمهور التركي استقبال الأبطال.
وهناك شخصيات غير واقعية ولم تكن موجودة في عهد السلطان عبد الحميد, كشخصية الأرمني "هيرام" و "سارة هدايا" و "عمر و"إحسان" , بل حتى شخصية تيودور هيرتزل لم تكن كما صورها المُسلسل أنها مُرابطة في اسطنبول, بل جاء هرتزل مرة واحدة لمُقابلة السلطان عبد الحميد ومُقايضته بالأموال ليبيع بعض الأراضي لليهود في فلسطين, وتم رفض عرضه وغادر اسطنبول مدحوراً.

ولو أن مُخرج المُسلسل ركز أكثر على شخصية المحام اليهودي إيمانويل قراصو, وجعل الدور الرئيس له وليس لتيودور هرتزل في المُسلسل لكان أقرب إلى الحقيقة والواقع, حيث يُعتبر قراصو هذا من أهم الشخصيات التي لعبت دوراً خبيثاً في خلع السلطان عبد الحميد, وكان من ضمن الوفد الذي قام بتسليم السلطان عبد الحميد قرار خلعه.

وايمانويل قراصو - Emanuel Karasu هذا هو محام يهودي من بقايا يهود الدونمة, من سكان سالونيك العثمانية (اليونانية حالياً), كان أُستاذاً في محفل مقدونيا ريزولتا الماسوني, عُين في البداية نائباً في المجلس النيابي العثماني عن مدينة سالونيك ثم نائباً عن اسطنبول.


صورة اليهودي قراصو كما بدت في مُسلسل السلطان عبد الحميد.

صورة حقيقية لليهودي إيمانويل قراصو الذي لعب دور هام في خلع السلطان عبد الحميد.

صحيح أن تيودور هرتزل هو المؤسس للحركة الصهيونية ورئيس الحركة الصهيونية العالمية وأصبح هو الأب الروحي لدويلة المسخ إسرائيل, ولكنه في ذلك الوقت كان هرتزل مُجرد صحفي يهودي مجري يسعى لجمع شرائد يهود أوروبا على أرض فلسطين, وكان يواجه مُعارضة شديدة من قِبل اليهود أنفسهم.

حاول أن يُغري السلطان عبد الحميد بالمال لكي يمنح اليهود جزءاً من الأراضي الفلسطينية وليست كلها لغرض توطين اليهود هناك, مُقابل أن يقوم هو واليهود بتسديد كامل ديون الدولة العثمانية ولكن السلطان عبد الحميد رفض عرضه وقام بطرده, حسب ما ذكر هرتزل نفسه في مُذكراته.

أما زميله الآخر اليهودي إيمانويل قراصو فقد كان مواطناً عثمانياً بحكم أنه من يهود الدونمة, ونشاطه التآمري والتخريبي داخل اسطنبول كان فعالاً وملموساً في عهد السلطان عبد الحميد وما بعده, حيث شغل لاحقاً منصب المُفتش العام للإعاشة أثناء الحرب العالمية الأولى, وقد جنى أموالاً طائلة من خلال منصبه قبل أن يفر لإيطاليا, وقيل في رواية أخرى أن أتاتورك قد نفاه خوفاً من كيده ومؤامرته.


هرتزل على متن الباخرة الروسية "الإمبراطور نيكولاي الثاني" المبحرة من الاسكندرية إلى فلسطين 1898م.

كذلك فإن تصوير شخصية الداماد محمود جلال الدين باشا الجورجي في المُسلسل جاءت على غير الواقع تماماً, إذ لا تمت للشخصية الحقيقية بأي صلة, فقد كانت شخصية محمود باشا الحقيقية صارمة وقوية وعنيدة أيضاً, ولم يُعرف عنه حس الفكاهة والهزل أو الضعف حتى, وربما أراد المخرج إضفاء نوع من الـأجواء الفكاهية على أحداث المُسلسل من خلال تلك المواقف واللزمات الظريفة, وقد نجح, حيث برع الممثل التركي - هاكان بوياف Hakan Boyav - الذي تقمص دور "محمود باشا الكوميدي" صاحب لزمة "أه سنيحة آه", فقد استطاع هذا الممثل التركي إضفاء جو من المرح على أحداث هذا المُسلسل من خلال تقمص تلك الشخصية, ولكن بالقطع تلك الشخصية التي تقمصها لا تنطبق على الشخصية الحقيقية للداماد محمود باشا.


صورة للممثل التركي هاكان بوياف وهو يظهر في لقطة كوميدية في دور محمود باشا.


صورة حقيقية للداماد محمد باشا .. ويُمكن ملاحظة الفرق بين الشخصيتين من خلال المُقارنة بين الصورتين فقط.

وكما أوردت فقد اعتمد المؤلف والمخرج معاً على عوامل التشويق البوليسي والأكشن والمطاردة ومُلاحقة الجواسيس, وبات المُشاهد أمام شخصية "جيمس بوند" جديدة بصبغة سلطانية عثمانية وليس أمام شخصية السلطان عبد الحميد الثاني الحقيقية.

كان بإمكان مؤلف هذا العمل والمخرج أيضاً أن يختارا أي شخصية أخرى أو حتى اختلاق شخصيات وهمية ومن ثم تركيب تلك الأحداث عليها, وفي نهاية المطاف سوف يحظى هذا المُسلسل بكم هائل من المُشاهدين أيضاً, لأن العبرة ليست في كثرة المُشاهدات بقدر ما هي برصانة العمل وبقائه راسخاً في ذاكرة الأجيال كعمل تلفزيوني راق حينها سيُعد من الأعمال الدرامية التركية الخالدة.


فمثلاً لم يتناول هذا المُسلسل بداية حياة ونشأة عبد الحميد الطفل, ومعلوم أن السلطان عبد الحميد عاش يتيماً بعد أن توفيت والدته وهو لم يتجاوز بعد عمر العشر سنوات, حيث توفيت والدته وهي بعمر الـ 33 عاماً، وكانت أمه من أصل شركسي واسمها «تيرمزكان قادين أفندي» وهي الزوجة الثانية للسلطان عبد المجيد, فعُهد بعبد الحميد إلى زوجة أبيه «بيرستو قادين» والدة مُراد التي اعتنت بتربيته وأولته محبتها؛ لذا منحها عند صعوده للعرش لقب «السلطانة الوالدة», كما توفي والده وهو في عمر الـ 18 عاماً، وبعد وفاة والده عاش بكنف عمه السلطان عبد العزيز, وكان عبد الحميد يُحب عمه السلطان عبد العزيز كثيراً ولهذا شكلت عملية انتحاره أو "قتله" بعد حادثة خلعه فاجعة أثرت تأثيراً نفسياً كبيراً على شخصية عبد الحميد - الحقيقة أن السلطان عبد العزيز أقدم على الانتحار ولم يتم اغتياله كما ترددت الأقاويل -.

فقد تأثر السلطان عبد العزيز نفسياً بعد خلعه وأُصيب من حالة من الاكتئاب الشديد فقرر أن يُنهي حياته بقطع شريان يده في غرفة نومه, وحدث هذا الأمر بوجود والدته وجميع نسائه – زوجاته وبناته وجواريه كان الجميع في نفس البيت – وهذا يدحض فرضية الإغتيال بوجود هذا العدد الكبير من أفراد أسرته.

السلطان المخلوع عبد العزيز  الأول وهو ابن السلطان محمود الثاني.

ولكن السلطان عبد الحميد أصر على فرضية الاغتيال وبدأ يستمع إلى ما يُشاع ويتردد من اقاويل حول تلك الحادثة, وهذا الأمر جعله يشعر بالرهاب والخوف من عملية الاغتيال وبدأ يتحين الفرص للانتقام ممن أقالوا عمه السلطان عبد العزيز, ولهذا استهدف كل من عوني باشا ومدحت باشا شخصياً وأعتبرهما المسؤولين الرئيسيين عن موت عمه, ثم تم الحكم لاحقاً على مدحت باشا بالنفي والسجن في قلعة الطائف, وهناك تم خنقه ودُفن في الطائف عام 1883م, وأنا أرى شخصياً أن حادثة انتحار السلطان عبد العزيز هي من أفسدت حياة السلطان عبد الحميد وجعلته يخلق له أعداء كُثر ويُساهم دون أن يشعر بظهور حركة الإتحاد والترقي, التي استلهمت أفكارها من جمعية تركية الفتاة التي كان يُعتبر مدحت باشا من أهم مؤسسيها, حيث يقول السلطان عبد الحميد عن حادثة انتحار عمه السلطان عبد العزيز :

« إني مُقنع الآن بأن عمي عبد العزيز لم يمت مُنتحراً, بل مات مقتولاً, فتقرير الطبيب الشرعي مرن جداً, ويُمكن مناقشته بواسطة أكبر علماء الطب في العالم. كيف يستطيع مُنتحر أن يقطع شرايين ذراعيه الاثنتين؟ لقد لفت هذا انتباه الأطباء في ذلك الوقت. بل وتناوله الأدباء في كتبهم. سطور تثير الانتباه في كتاب "أس الانقلاب" للمرحوم أحمد مدحت أفندي. نُشرت قبل مُحاكمة مدحت باشا بنحو أربع سنوات وأدانته, وأحمد أفندي هذا لم يكن عدواً للباشا, بل كان من رجاله.».[1]

إضافة إلى ذلك كان السلطان عبد الحميد منذ صغره يميل إلى العزلة حيث يروى أن والده كان يصفه بالشكاك الصامت, ولكن حادثة موت عمه السلطان عبد العزيز زادت حالة الشك والريبة والخوف لديه, وهذا ما جعل منه شخصاً مُرتاباً بكل من حوله.

وهناك أمر آخر شكل ضغطاً نفسياً على شخصية السلطان عبد الحميد منذ فترة شبابه, وهو حالة العزل التي مارسها أخيه غير الشقيق - السلطان لاحقاً – مراد بتأثير من والدته الطامعة والتي كانت تخشى من حلول عبد الحميد بدلاً من ولدها مُراد في الحكم, وهذا ما حصل لاحقاً.

ناهيك أن مراد هذا قد تأثر بالأفكار الماسونية كما يذكر السلطان عبد الحميد في مُذكراته, وأصبح ألعوبة بيد الماسونية ثم فقد عقله وأصبح معتوهاً فتم خلعه, وهذا الأمر يُعيدنا إلى مسألة تغلغل الحركة الماسونية وتأثيرها على النخب التركية في نهاية العهد العثماني, قبل بروز الحركة الصهيونية كحركة دينية سياسية تسعى لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين.

السلطان عبد الحميد الثاني وهو في مرحلة الشباب.

وقد يبدو للقارئ المُتابع أن هنالك ضبابية وعدم وضوح في موقف عبد الحميد - حينما كان أميراً -من عملية خلع عمه السلطان عبد العزيز, وقد يتساءل البعض كيف رضي عبد الحميد أن يتم خلع عمه الذي هو بمثابة أبيه ثم يكون أخيه غير الشقيق مُراد هو السلطان البديل؟ وكيف قبل لنفسه أن يكون ولياً لعهد مُراد, حيث أصبح لاحقاً هو السلطان بعد تنحية مُراد بسبب مرضه العقلي, ومع هذا قام لاحقاً بمُحاكمة من انقلبوا على عمه عبد العزيز ؟
الحقيقة أن عبد الحميد حينذاك لم يكن نافذاً حتى يستطيع إيقاف مُخططات وأطماع أخيه غير الشقيق مُراد,

فقد كان عبد الحميد مُجرد شاب يتيم مُهمش حاولوا عزله عن شؤون الدولة والسياسة كي لا يؤثر على مكانة ولي العهد الموعود مُراد, فكان يجاريه ويُداريه خوفاً من العقوبة والانتقام, وعن حقيقة موقف عبد الحميد يذكر المؤرخ محمود كمال اينال المعروف بابن الأمين, الذي كُلف بتصنيف الأوراق التي خلفها السلطان عبد الحميد في سراي يلديز بعد خلعه, فيقول في مقالة له بعنوان – حول السلطان عبد الحميد – نشرت بعد وفاته في مجلة حياة التاريخية عام 1977 :

« إنهُ سَمِع من ممدوح باشا ناظر الداخلية السابق أن مُراداً عندما كان ولياً للعهد, كان يأتي لزيارته بعض المُنافقين يعرضون عليه خدماتهم, ويبايعونه على السلطنة والخلافة, وكان هو الآخر يسعدُ لذلك, فيتوجهُ بالحديث إلى أخيه عبد الحميد أفندي (السلطان فيما بعد) ويقول له: "أخي, اليوم كسبنا رجلاً مُهماً من بين النابهين". وكان عبد الحميد يُنصتُ إليه مُصطنعاً الفرحة, ويردُ عليه بما يزيد سعادته, غير أنهُ كان يضمُ أسماء هؤلاء الزائرين المُتكالبين على ضمان مُستقبلهم إلى قائمة الساقطين من نظره, فلما اعتلى العرش لم يعبأ بهم.».

وقد عُرف عن السلطان عبد الحميد مزاولة الرياضة وركوب الخيل والمُحافظة على الصلاة والبعد عن المُسكرات, وكان نجاراً ماهراً يُحب مهنة النجارة ومعروف بشغفه في الحفر اليدوي, وقد شيّد ورشة صغيرة في حديقة قصره في اسطنبول, وكانت له اهتمامات مُختلفة من بينها هواية التصوير الفوتوغرافي, حيث قام بتصوير كل أنحاء إستانبول وجمعها في ألبوم يتكون من12  مجلداً، والألبوم الخاص بعدسته محفوظ حالياً في مكتبة الكونغرس في واشنطن في القسم التركي.

كما اهتم السلطان عبد الحميد بالترجمة كثيراً وكان لديه مكتباً خاصاً بالترجمة يعمل فيه 6 مُترجمين وكان مُتابعاً ومُطلعاً على كل ما يُكتب وينشر في الصحف والمجلات والدوريات الأوروبية, ولم يكن رجعياً كما روجت الصحف الأوروبية التي كانت تشن حملات إعلامية ضخمة موجهة ضده لتشويه سمعته ولتحريض العسكر عليه.

ولهذا فإن المُسلسل لم يُلامس حقيقة حياة السلطان في فترة شبابه, وإن حاول الغوص في حياته الشخصية وإبراز الخلافات الأسرية والتنافس داخل قصر الحريم حينما أصبح سلطاناً, إلا أن فترة حكم السلطان عبد الحميد حافلة بالحوادث, ومليئة بالصراعات السياسية خاصة بين القناصل الأجانب الذين كانوا يتنافسون على ترسيخ مصالحهم, وخاصة بين السفير الروسي والبريطاني, وهذا ما لم يتطرق له المُسلسل, بل على العكس أظهر السفير البريطاني والسفير الروسي وكأنهم حلفاء وهذا خلاف الحقيقة, إذ تعرضت السفارة البريطانية للحرق المُتعمد وأتهم السفير الروسي بالوقوف وراء تلك الحادثة.

كذلك مُحاولة السفير الروسي في الأستانة تحذير السلطان عبد الحميد من مساعي الإنجليز في التنقيب عن البترول في العراق بحجة البحث عن الآثار, وهذا ما ذكره السلطان عبد الحميد[2] في مُذكراته. ولهذا أرى أن مُسلسل السلطان عبد الحميد أغرق بالتفاصيل السطحية وبالمُغامرات البوليسية وأهمل الحوادث المهمة والأسباب الحقيقية وراء تدهور الأوضاع ومن ثم خلع السلطان عبد الحميد من خلال تآمر جماعة الإتحاد والترقي ذات التنظيم الماسوني.

لوحة زيتية للسلطان عبد الحميد الثاني في أواخر أيامه.

مُسلسل كوت العمارة :

نأتي الآن إلى مُسلسل "كوت العمارة" وهو عمل درامي مُهم ويُفترض أن يكون دقيق وموثق, لأنهُ يُصور أهم معركة انتصر بها الأتراك على الإنجليز, حيث كبدوهم آلاف القتلى والأسرى, وعليه كان يجب أن يُعد هذا المُسلسل إعداداً جيداً وعدم غمط حق أي طرف آخر, والرجوع إلى الأرشيف العثماني والبريطاني لتوثيق أحداث المعارك وحصر الشخصيات الحقيقية في أحداث حصار الكوت وهزيمة البريطانيين شر هزيمة في تلك المعركة, خاصة وأن هناك قادة ألمان أيضاً شاركوا القوات العثمانية في التخطيط لمعركة الكوت.

لكننا نجد أن المؤلف شرق وغرب واختلق قصصاً وروايات أخرى وحشرها في سيناريو المُسلسل, ولا أدري لم هذا التوسع وتزاحم الأفكار في سيناريو مُسلسل يُفترض به أن يتحدث عن حصار مدينة الكوت وهزيمة الجيش البريطاني الساحقة في تلك المعركة التي دارت رحاها في تلك البلدة العراقية ؟

فقد تم حشر الأرمن في بداية أحداث المُسلسل ثم زج بالجاسوس البريطاني المزعوم كوكس وصديقته فكتوريا, وأيضاً الصحفية الأمريكية إليزابيث, ومن ثم الزج بالمصارع خسرف وولده الأرعن وابنه المُتبنى العنيد حيث يذهب للكوت ليعمل خبازاً هناك, ثم ظهرت لنا فتاة بدوية مع جدتها في الصحراء واتضح لاحقاً أنها مُتعاونة مع رجال الدولة العثمانية. وربما يجهل المؤلف ومُخرج العمل أن الكوت هي بلدة نهرية تربتها طينية ولا علاقة لها بالصحراء, حيث يمر بها نهر دجلة الذي ينبع أصلاً من جبال طوروس جنوب شرق الأناضول.

وقد يقول قائل أن المؤلف يحاول ملء الفراغات في السيناريو وذلك بالتطرق لأحداث أخرى لتكون رديفة لمعركة الكوت, إذ لا يمكن إخراج مُسلسل من عدة حلقات وليس هناك إلا محور واحد وهو  معركة الكوت.

إذن كان عليه أن يبني سيناريو مُنسجم ومتوافق مع أحداث حصار ومعركة كوت العمارة, فلديه معارك دائرة في نفس التوقيت بين ابن رشيد حليف الدولة العثمانية مع ربيب الإنجليز, عبد العزيز بن سعود, وهناك جبهة الشام ومعارك دائرة بين الجنود الأتراك والجيش البريطاني في سيناء, وهناك جبهة الحجاز وتحركات الشريف حسين وأبنائه الذين يقودون التمرد بإيحاء من قبل الإنجليز, كل تلك الأحداث غنية وستكون مُكملة للحدث الرئيس لو كان المؤلف مُطلعاً على تاريخ المنطقة وأحداثها الجسام.

كما يُخطي المخرج في كل مرة حين يُظهر مجسم لمدينة البصرة وخلفها سلسلة جبلية, علماً أن البصرة لا تحوي على أية جبال, باستثناء مُرتفع صغير على هيئة بروز جبلي يُسمى جبل سنام وهو بعيد جغرافياً عن مدينة البصرة, وهذا الخلل قد يحدث لعدم معرفة المخرج بطبوغرافية المنطقة.

ثم يختار المُخرج شخصية "التاجر عمر" كشيخ عربي موالٍ للدولة العثمانية, وبالمُقابل هناك شخصيات عربية أخرى خائنة, كشخصية التاجر إدريس, ولا أدري لِمَ الخلط بين المشيخة والتجارة هنا, ولِمَ يتردد المؤلف في الافصاح عن أسماء الخونة العرب المشهورين والموثقة أسمائهم في الأرشيف العثماني, ومن ناحية أخرى يتجاهل ذكر الشيوخ العرب الشرفاء النجباء الذين كانوا أوفياءً للدولة العثمانية, ثم يلوموننا لعدم تشجيع هكذا مُسلسلات عشوائية وهي غير جديرة بتوثيق تلك المرحلة.


المُمثل التركي هاكان فانلنن - Hakan Vanlı'nın الذي قام بدور كورد أوغلو في مُسلسل أرطغرل, يقوم بأداء دور شيخ عربي خائن يُدعى إدريس.

فهناك نخبة من الشيوخ والأمراء العرب الأوفياء الذين وقفوا مع الدولة العثمانية وفقدوا إماراتهم بسبب تلك المواقف المُضادة للإنجليز, على رأسهم أمير حائل ابن  رشيد, وشيخ المنتفج الشيخ عجمي السعدون, والشيخ سليمان بن رفادة شيخ بلي, والشيخ حسين بن مبيريك أحد شيوخ قبيلة حرب, وغيرهم.

ولو كان للمؤلف خبرة وإطلاع تاريخي على تاريخ تلك المرحلة لما اختار اسم الجاسوس البريطاني "كوكس"؛ لأن السير برسي كوكس لم يكن جاسوساً قط, بل كان ضابطاً رفيع الرتبة في حكومة الهند تم تعيينه في البداية كمقيم سياسي بريطاني في بوشهر, ثم أصبح رئيساً ومسؤولاً عن شؤون الخليج ومنطقة نجد, وبعد احتلال العراق تم تعيينه كحاكم عسكري ومندوب سامٍ على العراق.

ناهيك عن اظهار شخصية ذلك الجاسوس البريطاني المزعوم "باي كوكس" كشخصية خارقة, يصعب هزيمتها في المُسلسل, ولو بحث المُخرج قليلاً في الأرشيف لوجد عدة أسماء من الجواسيس الإنجليز المُستعربين المُهمين جداً من الذين عملوا في المنطقة, وتوغلوا في العراق أبان الحكم العثماني وفي نفس الفترة التي يتحدث عنها سيناريو المُسلسل, وقد ساهموا في تجنيد كثير من زعماء وشيوخ القبائل البدوية العربية وحتى الكردية, أمثال؛ العقيد مارك سايكس والميجر ايلي بانستر سون الذين تنقلا سراً في المناطق الكردية وحرضا الكُرد على التمرد, وكذلك الكولونيل لتشمان أو "لجمن" الذي كان تارةً يتقمص شخصية "درويش موصلي" وأخرى شخصية البدوي عابر السبيل, وهو من جنّد كثير من شيوخ البادية بين العراق والشام.


صورة تجمع العقيد سير مارك سايكس – صاحب الاتفاقية المشؤومة - مع مُتمردين كرد في شمال سوريا.

مارك سايكس في مضارب الشيخ إبراهيم باشا الملي زعيم الكرد الملية.

أما التطرق لجاسوسات الإنجليز فلم يكن المُسلسل بحاجة لشخصيات وهمية كفكتوريا أو حتى الصحفية  الأمريكية إليزابيث, فكان يكفي المؤلف لو أنه استعان بشخصية الجاسوسة البريطانية غيرترود بيل الشهيرة بمسز بيل, التي أصبحت لاحقاً من أهم العناصر الاستخبارية للجيش البريطاني في العراق.


الجاسوسة البريطانية غيرترود بيل مع السير برسي كوكس وصنيعة الإنجليز عبد العزيز بن سعود.

فلو اختار المؤلف شخصية الكولونيل جيرارد افيلين ليتشمان - Gerard Evelyn Leachman؛ المشهور عراقياً بـ"لجمن", والذي قتله الشيخ ضاري المحمود الزوبعي.[3] لكان قد أصاب الهدف بمهارة فائقة, لأن الكولونيل لجمن هذا قد شارك في معارك حصار الكوت من خارج البلدة كرجل استخبارات, وحاول مراراً كسر الحصار وإدخال الأغذية مع بعض الأدلاء وقد فشل, كما أنه قام بتجنيد بعض شيوخ القبائل البدوية, وأصبح لاحقاً هو الحاكم العسكري على الأنبار والموصل.

فشخصية الكولونيل لجمن كان يُمكن أن تُعطي مصداقية كبيرة للمُسلسل لو أن المؤلف قد استعان به بدلاً من شخصية "كوكس" الوهمية, خاصة وأن اسم كوكس يرمز إلى المُقيم السياسي البريطاني في بوشهر, والذي أصبح لاحقاً الحاكم العسكري للعراق, أي أن المؤلف دون أن يقصد سوف يوحي للمُشاهد غير المُطلع على تلك الأحداث بأن الجاسوس كوكس هذا انتصر في نهاية المطاف وأصبح هو الحاكم العسكري العام للعراق بأكمله.


صورة أرشيفية لضابط الاستخبارات البريطاني الكولونيل لجمن وهو بالزي البدوي.

والحقيقة أن حصار ومعركة الكوت كانت صفعة قاسية للحلفاء ولبريطانيا تحديداً, حيث خسروا آلاف الضحايا والأسرى, ويكفي أن قائد الفرقة السادسة البريطانية الجنرال تشارلز تاونسند Sir Charles Vere Ferrers Townshend قد تم أسره هو الآخر, حيث يذكر الباحث البريطاني مايكل آشر في كتابه - لورانس .. ملك العرب غير المتوج :

"وقد كلفت مأساة الكوت البريطانيين ثمانية وثلاثين ألف قتيل دون أن يجنوا منها مثقال ذرة من النفع السياسي. ولم يسبق للإمبراطورية البريطانية أن تصل إلى هذه الدرجة هبوطاً... الخ. وسيق ثلاثة عشر ألف جندي من الفرقة السادسة الهندية - الإنجليزية إلى الأسر, حيث توفي أكثر من نصفهم. أما مُهندس الكارثة الأول, وهو الجنرال تشارلز تاونسند, فقد هجر فرقته, وأمضى حالة "أسر" كريمة في فندق على مضيق البوسفور برفقة كلابه المُحببة (الحيوانات الوحيدة التي لم تأكلها الفرقة الجائعة). وكان سير تشارلز يكن لكلابه حُباً عميقاً, إلا أنهُ لم يستعلم ولو مرة واحدة, عن حال رجاله. ولم يسخر الأتراك فقط من خطة البريطانيين لرشوتهم بالمال, بل إنهم أيضاً استغلوها في الدعاية السياسية.".

أما الرحالة والصحفي السويدي سفين أندرز الذي كان شاهد عيان على هزيمة القوات البريطانية في كوت العمارة, كونه ذهب إلى العراق ليُغطي أحداث تلك الحرب, لكنه صادف وصول الأسرى الإنجليز إلى الموصل, فيقول :
"وشاهدنا رتلاً [من الأسرى] يتألف من 500 جندي انجليزي وهندي يسيرون ببطء شديد مُغادرين المدينة في طريقهم الى راس العين تحوم فوق رؤوسهم وحولهم سحابة قاتمة من الغبار.. تبدو عند ضاحية المدينة حمراء واجمة بسبب اقتراب الشمس من المغيب، يسيرون أحدهم الى جانب الآخر في موكب جنائزي وكأنهم يشيعون أحلامهم في الهيمنة المطلقة على الشرق.. وكان بين الأسرى قس أيرلندي كنت إلتقيته في بغداد ومرة أخرى في سامراء أخبر أحد المرافقين الألمان للأسرى أن هناك في مستشفى الموصل إنجليز يحتضرون، وحتى الأقوياء من بينهم لا يقدرون على السير في حر الصيف".

ومثلما عانى الأسرى الإنجليز الذين غالبيتهم من الهنود من الجوع والهزال والمرض وتوفي الكثير منهم في الأسر بسبب الاصابات الخطيرة والأمراض, أيضاً عانى أسرى الجيش العثماني هم كذلك الأمرين في مُعسكرات الأسر البريطانية في العراق, ولم يتنفسوا الصعداء قليلاً إلا حينما تم نقلهم إلى مُعسكرات الاعتقال في الهند.


الجنرال تشارلز تاونسند قائد الفرقة السادسة البريطانية التي تم تدميرها بالكامل في معركة كوت العمارة.

أخيراً أنا لست ضد إنتاج وتسويق المُسلسلات التاريخية, بل على العكس تماماً فأنا أطالب بالمزيد من الإنتاج الدرامي التاريخي الرصين وفق ضوابط علمية وإشراف أكاديمي وتدقيق مهني, وشخصياً أستمتع كثيراً عند مُشاهدة تلك المُسلسلات التاريخية ولكن يجب أن نسعى دائماً للأفضل, والحقيقة فقد برع الأتراك في هذا المضمار مؤخراً من خلال أعمالهم الأخيرة, ولكن مؤاخذتي على تلك الأعمال هي عدم اعتمادها على المصادر والمراجع التاريخية الرصينة, ومن ثم التعامل مع المادة التاريخية وكأنها مادة قابلة للتعديل والإضافة والحذف وأحياناً التجاهل.

وهذا الأمر لا يتماشى منجهياً ولا حتى مهنياً مع أُسس التوثيق التاريخي, وأتوقع أن الجامعات ومراكز الدراسات التركية سوف يكون لها رأي حاسم وحازم في هذه المسألة التوثيقية, إذ لا يمكن أن يتحول أساتذة التاريخ إلى مُجرد مُتفرجين على تلك المُسلسلات المشوهة دون إبداء الرأي والنقد البناء, ومُحاولة تعديل مسار السيناريوهات التاريخية القادمة.
انتهى.


[1] كتاب : السلطان عبد الحميد الثاني .. مذكراتي السياسية.
[2] كُنت قد عزمت على كتابة سيرة ومسيرة السلطان عبد الحميد الثاني خاصة وأني قد تطرقت لجزء كبير من حياته وسياسته في كتابي (صنائع الإنجليز – الجزء الأول), ولكن بعد ظهور هذا المسلسل ألغيت الفكرة رغم عدم قناعتي بسيناريو هذا المُسلسل, إذ لا يمكن إعادة اجترار سيرة السلطان في كتاب جديد حتى وإن كانت الرؤية مُختلفة.
[3] هو الشيخ ضاري بن محمود الزوبعي الشمري, يُمكن الرجوع لكتاب: صنائع الإنجليز – الجزء الأول للإطلاع على حكايته مفصلة مع الكولونيل لجمن, وسبب مقتل الأخير على يد الشيخ ضاري.