الجمعة، 11 ديسمبر 2020

"دارة عبد العزيز" والعُقدة الحائلية

 

(رداً على ما جاء في برنامج قناة روتانا عن تاريخ حائل)

أعلمني بعض الإخوة عن حلقة يُزعم أنها تاريخية بُثت في قناة "روتانا" في برنامج يقال له: "في الصورة" الذي يقدمه عبد الله المديفر حول "تاريخ حائل وقصة فخري باشا في المدينة"؛ ولا أدري ما علاقة تاريخ حائل بقصة فخري باشا وحكايته في المدينة؟

وما هذا التباكي ودموع التماسيح التي تذرف على ضحايا الصراع بين الدولة العثمانية والشريف حسين, وبنفس الوقت يتجاهلون ضحايا أهالي الحجاز الذين سقطوا على يد عبد العزيز وميليشياته الوهابية "إخوان من طاع الله"؟

بل تجاهل ضحايا أهالي حائل الذين حوصروا لعدة أشهر من قبل الإنجليز وربيبهم عبد العزيز, حتى وصل بهم الحال لطحن نوى التمر وأكل خشاش الأرض من الجوع. فأين دموع الطريفي ومن وظفوه عن تلك الكارثة الإنسانية؟ ناهيك عن المجازر التي ارتكبها "إخوان من طاع الله" في حق أهالي قرى حائل ومنها مجزرة الجليدة.

فتابعت تلك الحلقة المسمومة في الإعادة على اليوتيوب لأنني أصلاً لا أتابع روتانا وليد بن طلال التي "تسلمنت" لاحقاً بأمر من ابن سلمان. ولا أعرف على أي قمر يوجد ترددها. وقد جذب انتباهي أن المديفر "المُذاكر كويس" قد أحضر أحد العاقين لديرتهم من تلاميذ دارة عبد العزيز الخائبين وبدأ يفصل تاريخ حائل على مقاس معازيبه المراخنة.

https://www.youtube.com/watch?v=NvtkxuhOcpc&feature=youtu.be

والهدف معروف؛ فحايل كانت على الدوام عقدة لسلمان بن عبد العزيز وتاريخها عصي على الموظفين في "دارة عبد العزيز". ورغم هرم وتفسخ سلمان لكن فهد السماري مازال يسعى للتدليس من أجل توسيع صدر معزبه وذلك من خلال توظيف واستكتاب المتطفلين على التاريخ.

الغريب أن الضيف تم تقديمه للجمهور على أساس أنه أكاديمي ويحمل شهادة دكتوراه  ومُتخصص في مادة التاريخ, وطوال سرده في الحلقة عن تاريخ حائل لم يذكر ولا مصدر واحد عن تلك السردية المزورة التي قدمها للجمهور.

بخلاف ما ذكره عن بعض المصادر التي تحدثت عن "جرائم" فخري باشا, والذي تم الزج به زجاً في الحلقة الخاصة بتاريخ حائل ولأسباب سياسية معروفة.

ولن اتطرق لما جاء في حق فخري باشا وحصار المدينة المنورة لأن لا علاقة له بالموضوع أصلاً. علماً أنني سبق وأن كتبت عن حكاية فخري باشا حينما أثار أحد المُتطفلين على التاريخ نفس الفرية حول "جرائم" فخري باشا المُفتعلة في المدينة المنورة قبل ثلاث سنوات والمقال موجود في مدونتي على هذا الرابط :

http://saudalsab3aani.blogspot.com/2017/

وبعيداً عن الهدف الخبيث وراء إخراج تلك الحلقة المُرقعة للتاريخ, وبعيداً عن شخصية حصان طروادة الناقم هذا الذي جيء به ليُزور ويتلاعب بتاريخ حائل؛ سوف أتطرق لعدة مُغالطات تاريخية ذكرها الطريفي دون أن يورد أي مصدر لتلك المعلومات التي يستند إليها. وسآتي إلى بعض مُغالطات الطريفي وليس كلها :

ولكن قبل الرد على تلك المُغالطات يجب التنويه أن موظف الدارة الطريفي تجاوز عدة حوادث ومواقف تاريخية مُهمة في تاريخ حائل لم يتطرق لها, ابتداءً من معركة العدوة الفاصلة التي غيرت مجرى الأحداث لاحقاً. إلى دور عبد الله بن رشيد في ترجيح كفة فيصل بن تركي على كفة ابن عمته مشاري بن عبد الرحمن. وليس انتهاءً بقفزه على فترة حكم عبد العزيز الجنازة.

ولكن للتوضيح فقط عن سبب تغافل الطريفي عن إيراد معركة العدوة المفصلية, وعدم ذكره لمطلق الجربا كونه أحد زعماء بادية السابقين, إذ كان يمثل مطلق الجربا حينها الأمير العام لبادية حائل؛ ونقمة ابن علي ومن تحالفوا معه على مطلق الجربا, كون ابن علي شعر بأن سلطته لا تتعدى حواري حائل وأن السلطة المُطلقة خارج أسوار حائل هي لمطلق الجربا وولده مسلط. فسأورد مع ذكره راوية حائل عبد الرحمن المرشد في أحد أشرطته الكاسيت, فيقول :

« وأول من ذكر من العلي هو عبد المحسن بن فايز بن محمد بن عيسى بن علي ابن علي ابن عطية، ثم ذكروا الأمير محمد بن عبد المحسن بن علي والذي دخل تحت طاعة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1201هـ هو وجماعته أهل الجبل رغبةً منهم وليس رهبة، وكان الأمير محمد بن عبد المحسن بن علي من أقوى المؤيدين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن أقوى المناصرين للأسرة السعودية (الأولى) لدرجة أنهُ دخل الحرب مع ابن سعود ضد الجربان ومن معهم من شمر ومطير التي صارت بالعدوة سنة 1205هـ، والتي انتهت بانتصار ابن سعود على شمر ومطير.

وفي أواخر سنة 1205هـ: اجتمعت قبيلة شمّر وشيخهم مطلق الجربا مع قبيلة مطير وشيخهم حسن الدويش اجتمعوا في العدوة التي تقع على طريق حائل القصيم، وحينما اجتمعوا هناك غزاهم الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود ومعه أمير حائل محمد العلي وجماعته من الحضر ومعه الطوالة شيوخ الأسلم من شمّر، ويوم صارت المعركة هناك وينذبح [قُتل] الشيخ مسعود شيخ الجبلان من مطير الذي يُقال له حصان إبليس، وذبح معه شيخ العبيات من مطير، وفي المعركة الثانية ذبح الشيخ مُسلط بن مطلق الجربا، وأسباب ذبحة [مقتل] مُسلط الجربا؟ حلف مسلط أن يصل إلى خيمة سعود! وفعلاً فقد وصلها لكن فرسه انخثعت [عثرت] في أطناب الخيمة وطاح من ظهرها [سقط من على ظهرها] فتدالوه الطبابيخ [فتناوشوه] بالسواطير والفؤوس وذبحوه، وعقب ذبحة مسلط انكسروا شمّر ومطير وهم ينهزمون، وينهزم الشيخ مطلق الجربا ومن معه ويزبنون العراق.». [1]

وإن ذكر ما جرى بمعركة العدوة يكشف أن هناك عشائر من قبيلة شمّر تآمرت مع ابن سعود على أهلها وجماعتها بدافع الحقد ورغبة بالحصول على السلطة ولو كانت بسيوف الأعداء.

ومعروف أن عبد المحسن بن فايز العلي هو الذي تعاون مع جيش عبد العزيز بن سعود الذي زحف على حائل بقيادة حجيلان بن حمد البوعليان التميمي أمير بريدة في حينها؛ والذي أسرته القوات المصرية لاحقاً في عام 1818م وتوفي في الأسر.

ولهذا نجد أن عُبيد الرشيد يرد على أمير بريدة في حينه عبد العزيز بن محمد البوعليان, حينما تفاخر هذا الأخير بأن جده حجيلان هو من فتح حائل يوم صولة أهل الدين يقصد "الوهابيين". فرد عليه عُبيد بن رشيد "المتوهبن" بقصيدة عصماء, تناسى خلالها وهابيته حينما تعلق الأمر بشرف ديرته وكرامة شعبه. وذلك بعد هزيمة القصمان في معركة بقعاء. فيقول له عبيد في تلك القصيدة: أن جدك حجيلان لم يكن لينتصر لولا وجود بعض الخونة من داخل حائل, ممن سهلوا له عملية الغزو, ولولا تواطئهم هذا ما استطاع أن يُقدم على غزو الجبل، وهو ما جاء في البيت الذي يقول :

(يقول جدّه يوم صولة هل الدين***  قادوا عليه ذاهبين الحمايل).

ويُفسر ضاري الفهيد الرشيد في حواره مع وديع البستاني أن المقصود بـ(ذاهبين الحمايل)؟ هم الذين مهدوا لحجيلان عملية الغزو وعاونوه على هتك ستار ديرتهم.

لكن لنبدأ أولاً بموقع وحدود حائل؛ فالمُقدم سأل ضيفه عن حدود حائل الجغرافية؛ وهل هي ضمن حدود نجد أو خارج حدود نجد؟

وسؤال المذيع للطريفي فيه خبث وسوء طوية؛ لأن المقصود من وراء سؤاله هو: هل حائل حجازية أم نجدية؟

وأنا سبق وأن تطرقت في كتابي "الوهابية دين سعودي جديد" لتلك المسألة الجغرافية في الفصل الخاص بإمارة "حائل"؛ واعتمدت على المصادر ويمكن الرجوع إليها في الكتاب.

ومن ضمن المصادر التي أوردتها قول أبو بكر المقدسي المعروف بالبشاري، في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" أن منطقة حائل أو جبال طئ هي أرض حجازية وليست نجدية كما يظن البعض، حيث مرَّ أبي بكر المقدسي على ديار حائل وزار بلدة "فيد" قبل أكثر من ألف عام مضى, وقد وثق لنا في رحلته تلك التي تمت ما بين الأعوام 356هـ/966م- 375هـ/985م، بحجازية حائل، حيث يقول:

«  فيَد مدينة صغيرة ذات حصنين وبها حمام وبركة بأبواب حديد وآثارات لعضد الدولة يوجد بها كل خير وبها يودع الحاج أزوادهم وهم ثقات وبها عيون وآبار وبرك عذيبية، وبالبعد ماء حلو وهي من مدن الحجاز لا محالة ولكن أوصلنا إليها طريق القادسية لأن الحاجة إلى ذلك ماسة. وخلف فيد بلد يُقال له المنهب كثير النخيل والمزارع، ووادي طئ وجبالها ذات نخيل وقرى وخيرات فيد بينهما، وعليهما طريق البصرة إلى الشام، فمن المنهب إلى وادي القرى خمسة ليال، ومن المنهب إلى تيماء 4 ليال، ومن المنهب إلى وادي طئ ليلتان، ومنه إلى تبوك سبعة ليال.». [2]

ولاحظ عزيزي القارئ أننا نتحدث هنا عن مؤرخ ذكر تلك الحقيقة أو دون تلك المعلومة قبل حوالي 1035 سنة, وليس على لسان موظف على قناة روتانا.

ثم يسأله المُقدم عن الحالة الدموية في حكم آل رشيد ويريد من ضيفه أن يقرأ له تلك الحالة؟ وسوف أتبرع مجاناً لهذا المُقدم الغافل أو الغافي سيان, ببعض حالات التقاتل التي جرت بين الحكام لكي يفهم سبب تقاتل آل رشيد فيما بينهم.

فهذا المذيع رغم أنه "ذاكر دروسه جيداً" عن "تاريخ حائل المزور" إلا أنهُ لم يقرأ عن حالات التقاتل التي حصلت بين أجداد آل سعود المراخنة الأوائل؛ ولم يقرأ عن حالة التقاتل التي حصلت بين متاعيس آل مقرن من آل سعود المتأخرين أنفسهم سواء التقاتل الذي حدث بين مشاري بن عبد الرحمن وخاله تركي بن عبد الله آل سعود ومن ولده فيصل. حينما أمر مشاري باغتيال خاله وهو يصلي في المسجد! تلك الغدرة التي تمت داخل المسجد والتي لا يُقدم عليها إلا المارقين عن الدين.

أو عن حالة التقاتل الدموية التي حصلت لاحقاً بين أبناء فيصل بن تركي على الحكم؛ أي بين الإخوة كل من عبد الله وأخوه سعود؟

وكيف أُريقت آلاف الأنفس البريئة بسبب تصارعهم على المُلك, إلا أن نجحوا بالتخلص من سعود من خلال تسميمه. ثم بدأت مشكلة وعصيان أبنائه, وتحولوا لاحقاً إلى لقب "العرافة" واستمر صراعهم الدموي مع عبد العزيز بن سعود إلى وقت مُتأخر, أي إلى وقت قريب جداً.

ولم يقرأ المُقدم أيضاً عن حالة التقاتل التي حصلت بين شيوخ الكويت آل الصباح حينما قام مبارك بقتل أخويه الشقيقين وهما على فراش النوم؟

بل لم نسمع قط في التاريخ المُعاصر أن قام ابن باغتيال والده ليستولي على الحكم! إلا في سيرة المراخنة الأوائل أجداد آل سعود؛  حين أقدم جد آل سعود الأول المدعو موسى المريدي بطعن والده ربيعة عدة طعنات ليتخلص منه ويحتل مكانه, لكن الله سلمه؛ حسب الروايات الشفهية أو كما ذكر عثمان بن بشر في كتابه؛ إذ يقول :

«... ثم ولد لمانع المذكور ربيعة وصار له شهرة واتسع ملكه وحارب آل يزيد. ثم بعد ذلك ظهر ابنه موسى وصار أشهر من أبيه، وأستولى على المُلك في حياة والده، واحتال على قتل أبيه ربيعة فجرحه جراحات كثيرة وهرب إلى حمد بن حسن بن طوق [المعمر] رئيس العيينة. .... الخ.». [3]

بل من المفارقات العجيبة أن أحد أحفاد مرخان أو مردخان الفارين من الدرعية وهو المدعو وطبان بن ربيعة بن مرخان قام بقتل ابن عمه المدعو مرخان بن مقرن بن مرخان ثم فر إلى الزبير وعاش فيها هارباً من التصفية والقتل وكون أسرة هناك في الزبير, وحفيدته هي لولوة بنت ثاقب الوطبان التي تزوجها جابر بن عبد الله الصباح (1814 – 1859م) فأنجبت له كل من: محمد وجراح ومبارك, والتي أقدم ولدها مبارك على قتل أخويه الشقيقين محمد وجراح.

إذن حالات التصارع على السلطة والقتل والاغتيال في تراثنا العربي وحتى الإسلامي كما هو الحال بالنسبة للأتراك وغيرهم لا تعد ولا تحصى. وقد جاء في تاريخ الطبري "تاريخ الأمم والملوك" وغيره من أمهات الكُتب: أن عبد الملك بن مروان حين بلغه مقتل عبد الله بن الزبير قال: » واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا المُلْك عقيم«. وقيل أيضاً أن هارون الرشيد قال لابنه المأمون: "يا بُني المُلك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك".

وهذا قطعاً ليس شرعنة وتبرير للتقاتل الأُسري لكنه موجود ومتواتر مذ فجر الخليقة حينما اغتال قابيل شقيقه هابيل.

وكان على الطريفي إيراد حكاية عبد الله بن رشيد كاملة ودوره الرئيس في ديمومة حكم آل سعود في المرة الأولى, لا أن يقفز إلى ادعاء أن فيصل بن تركي المنكسر المكلوم هو من نصب عبد الله بن رشيد كأمير على حائل.

فعلى الأقل كان عليه شرح سبب ذلك الكرم الحاتمي المزعوم للجمهور, وإيضاح كيف قام عبد الله بن رشيد بالتخلص وقتل المُنقلب الطامع بالحكم السعودي حينها مشاري بن عبد الرحمن؟ وكيف استطاع ابن رشيد انقاذ فيصل بن تركي وإخراجه من مأزقه الكبير؛ بعد أن خلصه من عتو وغطرسة مشاري الباغي. وبالمُناسبة فإن مشاري بن عبد الرحمن آل سعود هذا كان ضخم الجثة قوي البنية ولا يستطيع أحد مصارعته أو التفوق عليه بدنياً.

فيزعم هذا الدعي أن فيصل بن تركي هو من عيّن عبد الله بن رشيد حاكماً على حائل ليكون تابعاً له وأنه أصبح تحت إمرة فيصل بن تركي! وينسى أن فيصل هذا قد عجز عن التخلص من ابن عمه مشاري والذي خلصه منه هو عبد الله بن رشيد وهو من أعاده للحكم بعد قتل مشاري.

بينما نرى الرحالة البريطاني وليام بالجريف الذي زار حائل في عام 1862م أكثر صدقاً ونقلاً من الطريفي المأجور, فيقول في عن سياسة عبد الله بن رشيد أثناء حديثه عن عُبيد في كتابه :

« وقد رأينا بالفعل شقيقه الأكبر عبد الله بن رشيد متطوعاً موثوقاً به، وله وزنه في الجيوش التركية، ولعب دوراً متميزاً ومهماً في الأحداث المشؤومة التي نزلت بأسرة آل سعود في نجد  خلال أحرج المراحل  التي مرت بحياة هذه الأسرة. ولكن عبد الله بن رشيد برغم صلاته الحميمة، سواء كمقاتل أو أمير مع الحكومة الوهابية يكاد لا يتعاطف أو يميل مُطلقاً إلى مبادئ ذلك المذهب الوهابي المُتزمت، لقد كان عبد الله بن رشيد حليفاً سياسياً ولم يكن تابعاً على الإطلاق، ولكن شقيقه عبيد المُتكبر والمُتشدد لم يكن كذلك.». [4]

ولنقرأ أيضاً عما جاء في مُذكرات الضابط العثماني عن عبد الله بن رشيد, فيورد أن عبد الله بن رشيد حين أبدى بطولات في رحلته للعراق. وكيف حصل على غزال ذهبي وقد أهداه مع قطع ثمينة أُخرى إلى تركي بن عبد الله آل سعود. ليتوسط بينه وبين أبناء عمومته العلي. ربما أراد عبد الله بن رشيد أن يحل الخلاف مع أبناء عمومته العلي من خلال شخص يتبعونه ويوقرونه وهو تركي بن عبد الله آل سعود, أو احتمال أنه سعى لكي يُفسد العلاقة المتينة بين آل علي وآل سعود, ويُحاول فك عرى الصداقة بين تركي بن عبد الله وعيسى بن علي؛ أو ربما خلط هذا الضابط في الجزء الأخير من نقله بين الأمير عبد الله بن رشيد وبين ولده محمد الرشيد. فلنقرأ ما كتبه الضابط العثماني في مُذكراته :

« وكان [عبد الله بن رشيد] ذا قوة وبأس عظيم في نفسه، وكان ذا شجاعة وجسارة فائقة، فتقدم إلى بعض الحصون المُحاصرة واختلع باب الحصن بقوته فدخلت الجنود، وفاز في هذه الواقعة بغنائم ثمينة، منها غزال [من] ذهب، فأخذها وبعد ذلك قدم [إلى] حاضرة إمارة السعود وهي بلدة الرياض، فأهدى إلى ابن سعود أشياء ثمينة من بينها غزال الذهب، واستقام عنده مدة وهو في جملة وزرائه الذين يعتمد على آرائهم.

ومن بعد ذلك توسط له ابن سعود عند بني عمه على أن يتنازلوا له عن شيء، فكان ذلك إمارة الحاج، وكان وقتئذ يذهب حاج عظيم من العراق على طريق جبلي طيء، فيمر بحائل فيستفيد منه العرب فائدة عظمى. وكان دخل هذا الحاج له، ثم بعد ذلك تولى الإمارة بعد نزاع وقتال بينه وبين بني عمه *. فتم له الأمر سنة 1251، واستقام له الأمر إلى أن توفي سنة 1263 فخلفه ابنه طلال بن عبد الله الرشيد.». [5]

والدليل أنهُ عندما أسدى هذا المعروف الكبير لفيصل ونجح بالقضاء على مشاري بن عبد الرحمن, لم يدعمه فيصل بجيش أو يرسل معه ولو قوات بسيطة تعينه. بل إن فيصل كان في موقف ضعف وحكمه كان في حالة تفكك وترقب بعد انقلاب مشاري فانشغل بإعادة ولاء بعض القرى النجدية التي بايعت مشاري. إنما كون عيسى بن علي كان يحتفظ بصداقة قديمة مع آل سعود ويُهدد بهم خصومه. نجح عبد الله بموقفه مع فيصل بن تركي بتحييد وعزل تلك الصداقة عن ساحة الصراع في حائل. وعاد الرجل لوحده إلى حائل ليصفي حساباته مع ابن علي. ولم يأت معه ولا جندي واحد من جنود فيصل بن تركي فكيف يزعم هؤلاء النوكى أن فيصل نصبه أميراً على حائل!؟

بل إن فيصل بن تركي حتى لو أراد دعم عبد الله بن رشيد فهو لا يستطيع, لأنهُ بهذا سوف يستفز الوالي التركي في المدينة, وآل سعود في تلك الأيام يعيشون في حالة ضعف وهوان ولا يريدون استفزاز الأتراك. ولهذا سعى عبد الله للحصول على الاعتراف التركي بحكمه من خلال كسب ود الوالي التركي في المدينة؛ وذلك حين أرسل شقيقه عبيد مع هدايا وخيول إلى الوالي التركي لكي يغض الظرف عما جرى في حائل من تطورات في رأس الحُكم. وعن محاولة عبد الله بن رشيد شراء صمت الوالي التركي يذكر لنا الرحالة الفنلندي جورج أوغست ڨالين الذي زار حائل في عام 1845م، في كتابه :

« ... وفي تلك الأثناء عينها أوفد عبد الله بن الرشيد أخاه عُبيداً لمفاوضة الوالي التركي [في المدينة المنورة] ومعه عرض يفوق عرض مناوئه [ابن علي]، فأقره الوالي شيخًا على جبل شمّر، وقيل إن العرض يومها كان ألفين من الإبل ومبلغاً من المال وهدايا أخرى، واحتفظ الأتراك بعيسى "ضيفاً" رهينة حتى ينجز عبد الله وعده.». [6]

أما المؤرخ النجدي عثمان بن بشر فيصف عبد الله بن رشيد بأنهُ رئيس جبل شمّر أثناء وجوده مع فيصل بن تركي, وهذا اعتراف بمكانته قبل قتله لمشاري بن عبد الرحمن, إذن لا حاجة به للتنصيب من قِبل آل سعود أو غيرهم كما يروج المتعايس. لكنه خرج يبحث عن حلفاء وداعمين له في قضيته, سواء حين ذهب عند الجربان في العراق؛ ولم يجد ضالته عند الجربا؛ لأن الأخير قطعاً لن يتدخل بصراع بين أبناء العمومة. ثم ذهب إلى الرياض يسعى لفك عرى التعاون بين آل سعود وعيسى بن علي لينقض عليه ويفتك به. لأن عيسى بن علي كان يحظى بدعم آل سعود. فيقول ابن بشر في كتابه عن مقتل مشاري بن عبد الرحمن :

« وأما فيصل فأنهُ لما بلغه الخبر في القطيف أخفاه عن الناس ورحل قافلاً وقصد الأحساء. وكان الأمير فيه من جهة أبيه عمر بن محمد بن عفيصان، فلما قدم الأحساء فشا ذلك في الناس وكان معه رؤساء المُسلمين وأعيانهم منهم: الأمير عبد الله بن علي بن رشيد رئيس جبل شمر.

وكان ذا رأي وشجاعة، ....

ولما كان ليلة الخميس حادي عشر صفر أرسل سويد إلى فيصل وطلب منه الأمان على نفسه وماله ومن كان عنده في القصر من الرجال، سوى من باشر قتل الإمام أو ساعد في قتله، فتشاور فيصل ورؤساء المُسلمين، فأشاروا عليه أن يُعطيهم الأمان لأجل ما في القصر من بيت المال والخزانات وخاف إن أخذوه عنوة يصير بين الناس أشتات، فأعطاهم الأمان على الصعود إليهم للقتال فأتوا إلى القصر فرموا لهم الحبال فصعدوا إليهم وهم أربعون من الرجال مع الليث الشجاع والصارم القطاع عبد الله بن علي بن رشيد رئيس بلد شمر وبداح رئيس آل جيش من العجمان.

والشجاع المقدام عبد الله بن خميس رضيع الإمام، فنزلوا عليهم في وسط القصر وقصدوا مشاري وأعوانه في مكانهم، فقتلوهم وهم ستة رجال وأخرجوا جسد مشاري ورأسه خارج القصر ليُعرف وينظر إليه رحمه الله تعالى(•) وعفى عنه، فإن القصاص يُكفر الله به عن الجاني ومغفرة الله أوسع من الذنوب العمد منها والزلل. .. .». [7]

وكان مشاري بن عبد الرحمن قد أرغم ابنة خاله الجوهرة بنت تركي على الزواج به بعد أن اغتال والدها وسيطر على الرياض, لذا نجدها تتغزل بعبد الله الرشيد بعد أن قتل مشاري فتقول:

حرٍ(ن) شلع من فوق قصر ابن دواس
 

يم الجبل فرّق فروخ الحباري
  

متقلدٍ(ن) في منكبه سيف عباس
 

اللي تصفح به عتاري مشاري
  

أما المُغالطة الأُخرى حين زعم الطريفي بأن عبيد بن رشيد كان متآمراً مع أبناء طلال على قتل عمهم مُتعب بن عبد الله الرشيد. وأنه كان يسير في الشارع حين قتل متعب وقام بقتل وزير متعب المدعو "علي القريشي". وهذا غير صحيح وإن حاول مؤرخو آل سعود اتهام عبُيد بالتآمر مع أبناء طلال لقتل عمهم متعب دون بينة, فقط يعتمدون على التأويلات. والحقيقة لو أن عُبيد أراد إزاحة ابن أخيه متعب لفعل ذلك بسهولة ويسر ودون الحاجة لإطالة الأمر والدخول في مؤامرة مع أبناء أخيه طلال ليغتالوا عمهم متعب.

صحيح أن عُبيد انزعج كثيراً من تهميش متعب لأبناء أخيه والتنكيل بهم, ومن ثم توزيره لشخص يتعيش على نقل الحكي والإشاعات وهو "عليوي بن قريشان الخالدي". وكان هذا الشخص يتلقط أخبار أبناء طلال ويزيد عليها ليجعل عمهم متعب يشعر بالغضب والنقمة عليهم. بل قام عليوي هذا بجلد أبناء طلال بأمر من عمهم متعب!

وهو ما أغاض عُبيد بن رشيد واعتبرها إهانة لأبناء أخيه حين يضربون على يد شخص غريب ليس من أسرتهم. فجاء ينصح ابن أخيه متعب ويحذره من مغبة ضرب أبناء أخيه وقد أصبحوا رجالاً كبار. لكن الآخر لم ينصت بل وسخر منه. ولهذا انسحب عُبيد من تلك القضية ولم يقم مُجدداً بدور الوسيط لحل تلك المشكلة بين أبناء طلال وعمهم متعب؛ مُقرراً عدم التدخل بينهم.

وحينما قُتل متعب لم يكن عبيد أصلاً قرب مكان الحادثة بل كان في مزرعته. وحينما عاد من المزرعة علم بالحادثة في الطريق ومن لسان وزير متعب ابن قريشان نفسه. وأما سبب قتله لابن قريشان فذلك بسبب نقمته عليه وتحذيره من إشعال الفتنة بين الأمير وأبناء أخيه؛ إذ اعتبره هو المُسبب الحقيقي لتلك المشكلة وهو من قام بتأليب الأمير متعب على بندر وبدر. ولهذا قتله من فوره وليس لأن عبيد كان متآمراً مع أبناء طلال. وهذا ما جاء على لسان حفيد عُبيد ضاري بن فهيد الرشيد في عام 1913م, فيقول عن تلك الحادثة لوديع البستاني :

« أما طلال بن رشيد فهو استقام أميراً على الجبل وعربانه اثنين وعشرين سنة، وعُبيد باق، ومات طلال رحمه الله، وقد خلّف أولاداً: أكبرهم بندر، وبدر، وسلطان، ومسلط، ونايف، وعبد الله، ونهار. وقد قام بالأمر من بعده أخوه متعب، واستقام سنة ونصفاً، وكان رجلاً شجاعاً. ولكنه لم يجر على السياسة التي هي تجمع الكلمة؛ وذلك أن عنده وزير سوء [يُدعى] عليوي بن كَريشان الخالدي، حتى أنهُ أمره في التضييق على أولاد أخيه طلال، حتى أنهُ [أي الوزير] ضربهم برضا متعب!. فعند ذلك غضبوا، وأتوا إلى عُبيد، وقالوا له [أي اشتكوا له وعرفوه بما جرى]. وقال: أقول لعمكم وأنتم وإياه من دوني، هو محل والدكم، وأنا شايب كبير، ولا لي في هذه الأمور دخل.

فدخل عليه عُبيد، وقال: يا متعب، إن هؤلاء ليسوا بالصغار يؤَدبون تأديب الجاهل، وأنت ترى أنهم مُحتاجون إلى التأديب، وهم يأنفون، لأن بندراً هذا معه أولاد، وأنت تريد ضربه كما يُضرب العبد أو الجاهل! وأنا أخاف عليك إنك تحنقهم، ويبدر أمر عليك ما هو طيب. فقال له متعب: إنما أنت شايب خبل، ثم قال: والله لو وجدوني ميتاً إن يقولوا نخاف إنه نايم. فعند ذلك قال عُبيد: كلكم عندي سواء، وإنما قلت ما قلت لأجل السياسة واجتماع الكلمة، وإلا أنت وإياهم تختارون من دوني. وقد جعلوا لهم خادم [أي أبناء طلال]، يستمع لكلام متعب على عُبيد إذ نصحه وما يرد عليه عبيد. وقد كان ذلك في الليل. فلما رأوا إصرار متعب، وغضب عُبيد وتخليه من الدخول في شأنهم، اغتنموا الفرصة. فلما أصبحوا - وقد كان للإمارة مجلس مُعتاد، الصبح بعد طلوع الشمس، وبعد صلاة العصر- فلما جلس متعب الصبح، وإذا هم قد استعدوا له بالتفقان، [البنادق]، وقد كان مجلسه مُقابل القصر، وهم في القصر، لأن متعب أبقاهم في دار أبيهم، وهو إذاك قد بنى قبل إمارته بيتاً كبيراً أحسن من القصر وبقي فيه. أما هم حالاً أطلقوا عليه رصاصتين، أما واحدة فقد ضربت عند كتفه ولم تصبه، وأما الثانية فأصابته، ولم يصل الأرض وفيه روح. وكان عُبيد يخرج عادةً إلى نخل أبيه، كل يوم من الصبح، ويأتي بعد انفضاض المجلس. فلما وصل النخل، وجاء على عادته، وإذا الناس في ضوضاء، وإذا بالوزير المُشار إليه يُعارضه ويصيح قائلاً: ما تقول يا عُبيد في هؤلاء الجهال الذين قتلوا متعب؟ وكان عُبيد راكباً فرساً، وعبيده ورجاجيله يمينه ويساره كجاري العادة. فعند ذلك قال عُبيد: والله ما قتل مُتعباً إلا أنت. اقبضوا عليه، فقبضه أحد العبيد، وجعل عمامته في عنقه، وقال امش قدامي، فلما مشى اخترط عُبيد سيفه، وضربه ضربة واحدة في المتن قصت أضلاعه، فسقط ميتاً. أما أولاد طلال فجاءوا إلى عُبيد يعتذرون ويتصفحون ماذا في خاطره، فلما حضروا قال: ما فللتم إلا عضدكم، ولا قللتم إلا عددكم، وقد عققتم أباكم وعمكم، فحسبكم الله ونعم الوكيل.». [8]

نأتي الآن لتفنيد إدعاء الطريفي في قوله أن فيصل بن تركي هو من منح الحكم لعبد الله بن رشيد, وهذا كذب صريح. لأن آل سعود حينها كانوا في وضع مزري بعد تدمير الدرعية على يد إبراهيم باشا ودخول نجد لمدة 23 عام تحت الحكم المصري. وحينما انسحبت القوات المصرية استمر تركي بن عبد الله يمارس التقية ويمثل دور الخاضع للحكم المصري وليس له سلطة مطلقة على بقية المناطق. بل حائل حينها كانت تخضع سياسياً لوالي المدينة التركي. وهو من له سلطة التغيير السياسي في حائل وغير حائل.

ولهذا حينما عاد عبد الله بن رشيد من الرياض وقضى على آل علي بمجهوده الشخصي وبمجهود شقيقه عُبيد الذي جمع حوله العديد من الأنصار. طلب من شقيقه عُبيد أن يذهب إلى المدينة المنورة ويُقابل واليها التركي ويُهديه 20 ناقة لكي لا يغضب مما حصل ومخافة أن يأتي من المدينة بجيشه ليعيد ابن علي للحكم.

إذن أين هو نفوذ أو سلطة ابن سعود حتى يستطيع أن يمنح ما لا يملك لعبد الله بن رشيد ؟

ويجب أن يعرف القارئ الكريم أن حكام حائل آل رشيد أعادوا آل سعود إلى الحكم ثلاث مرات مُتتالية؛ والحقيقة لن يُجازي آل سعود آل رشيد قط, وسوف أسرد لكم تلك المرات :

1-المرة الأولى: حينما تخلص عبد الله بن رشيد من ذلك المُتطلع الشرس مشاري بن عبد الرحمن آل سعود, حينما قتل خاله تركي بن عبد الله آل سعود (وهو ابن عمه بنفس الوقت). واستولى على الحكم, والحادثة تم سردها في هذا المقال أعلاه.

2- المرة الثانية: حينما فر فيصل بن تركي من مصر بمُساعدة الخديوي عباس ولجأ إلى حائل طالباً من الأمير عبد الله بن رشيد المساعدة والدعم العسكري ليستعيد الرياض من الواثب الجديد عبد الله بن ثنيان آل سعود. ولو كان الأمر كما يتبجح به الطريفي وغيره من أذناب آل سعود بأن فيصل هو من نصب عبد الله بن رشيد على حائل؟

فالأمر ينطبق كذلك على فيصل نفسه, فحينما هرب من مصر ولجأ إلى حائل؛ أرسل عبد الله بن رشيد معه شقيقه عُبيد مع قوات من حائل, واستطاع عُبيد الدخول إلى الرياض وإقناع عبد الله الثنيان بالاستسلام وعاد فيصل إلى الحكم من جديد. إذن فيصل بن تركي هو منصوب ابن رشيد على الرياض في المرة الثانية لأنه أرسل معه قوات تعينه بقيادة شقيقه عُبيد. فيقول عثمان بن بشر في كتابه عن وصول فيصل بن تركي إلى حائل بعد أن هروبه من مصر, فيقول :

«.... فحفظهم الله تعالى إلى أن وصلوا إلى الأرض وكانوا قد أعدوا ركائب تحتهم فركبوها وذلك في الليل فساروا إلى جبل شمر، وأرسلوا إلى عبد الله بن علي بن رشيد يخبرونه بمجيئهم، فتلقاهم بالرجال والرحائل، ودخلوا بلد حائل، فقابلهم بالتكريم والإكرام، وعظمهم غاية الإعظام، وقال ابشروا بالمال والرجال، والمسير معكم والقتال.». [9]

وعن دور عُبيد في جمع الجيش والسير مع فيصل للتخلص من مغتصب الحكم عبد الله بن ثنيان آل سعود, يذكر حفيد عبيد بن رشيد ضاري بن فهيد الرشيد لوديع البستاني عام 1913 :

« فشاور فيصل عُبيداً، وقال: ما ترى نحن نروح للرياض رأساً أم نبقى مع هذه الديرة المُحاربة له؟ فقال عُبيد: أما الرياض فلا فيه فايدة، لأن القوة وأهل الرياض وأهل نجد كلهم تحت يد ابن ثنيان، وهم الآن معه، ولا تفيد روحتك للرياض. ولكن أنا أركب إلى مطير الذي رئيسهم الدويش والذي حولهم من العربان، وعرباننا شمر يأتون إن شاء الله في ستة أيام. فإذا بقوا معه هؤلاء أغرنا على أهلهم وأخذناهم، وهم عتيبة وناس من مُتمردي أهل الجبل الذي مالهم قصد إلا النهب، وأضداد مطير وشمر، فإن هربوا قعد ما عنده بدو خاف من الحصار. فكانت المسألة كما قال عُبيد. لما بلغ ابن ثنيان الخبر هربوا البدو الذين معه، وبعضهم قدم على فيصل يعتذر، بالقول: إن ما حملنا على ذلك إلا الخوف منه، فعندئذ أرسل الله عليه رجفة من الرعب، فهرب ابن ثنيان من القصيم إلى الرياض رأساً.

عند ذلك خف فيصل في طلبه، وكان عُبيد لم يحضر في تجميع العربان، ولا أشاروا على فيصل أن يروح بغير قوة بدو، فكتب حالاً لعُبيد خط [رسالة] على أن هذه هي المسألة، وأنت يا عُبيد ساعة وصول الخط إليك تقدم علي، والجنود تواعدهم في الأرطاوية (بئر ماء). فلمَّا قدم عليه عبيد، قال: أنا أبشرك أنه ما يبقى، وأن ما يتبعه أحد من بعد ما شرد. وهو لم يشرد من قلة جند، ولكن رعباً. فإذا ألقى الله سبحانه وتعالى الرعب في قلب إنسان، وهو من الشجاعة في محل، لم ينظروا إليه الناس إلا بعين الخذلان. ... الخ

وحالاً كتب فيصل مكتوباً فيه أمان -  ليس بالقوي - ودفعه مع جلوي أخيه. فلما صعد جلوي، وأعطاه المكتوب، قرأه وإذا فيه: "أني ما أطلق سراحك، بل أحفظك. وأما القتل ما أقتلك" [أي أنني لن أطلق سراحك بل سأحتجزك عندي وأتحفظ عليك، وأما القتل فلستُ بقاتلك]. بعض خدامه لما رأوا جلوياً، أشر لهم جلوي على أن الذي يبغى العافية ينزل، فنزلوا غالبهم. فلما رأى ابن ثنيان أن المسألة هكذا قبل بالأمر، وهو يدري أن الأمان ليس بتام، ولكن للضرورات أحكام. فنزل حالاً. وأمروا على القصر ففتح بابه، ونزل الردم مما عليه. أما ابن ثنيان فهم حبسوه في البيت الذي فيه عُبيد بن رشيد، لأن فيصل لم يثق عليه أن يطلق إلا عندهم. وقال لعُبيد: ما دمت عندنا توكل به من رجاجيلك من يحفظه، مع أنه مُكبل بالحديد، ومغلق عليه البيت. وبعد مضي أربع ليال بأيامها، وإذا ابن ثنيان مخفي فلوس في أكمار [ثوبه] ومعطي الحباس الذي عنده، واحد فيه مائة ليرة، فأرتاع الحباس من ذلك، وحالاً أخبر عُبيد بالأمر، وأعطاه الهميان [الكمر] فأشرف على الفلوس، وحالاً أخذ الفلوس ودخل على فيصل، وقال له: أما إن كان حبسك لابن عمك حبساً مؤبداً فإنا نستعفيك. وإن كان ما هو مؤبد فلا بأس، لأنهُ أعطى الحباس هذه الفلوس التي بين يديك، ووضعها قدامه، ثم قال: وأنا ما آمن إذا صار يعطي فلوس أنه يخرج. فتكون المسألة تبعتها عليّ، وحالاً قال له فيصل: أعفيناك، ونحن نوكل فيه من يحفظه في غير مكانه هذا. فنقلوه من بيت عُبيد، وحبسوه في بيت متحد. فلما استقام ستة أيام أو سبعة، قالوا: تزهد ابن ثنيان، ومات. والسبب أن الحبابيس الذين صاروا عنده، قاتل آباءهم ابن ثنيان، واغتالوه، وقالوا: مات. وعند ذلك، فيصل لسان حاله يقول: لم آمر بها ولكنها لم تسؤني.». [10]

3- المرة الثالثة: حينما انقلب الابن العاق تركي بن عبد الله بن فيصل بن تركي على والده الهرم أمير الرياض عبد الله بن فيصل؛ فقام بعزله وسجنه مع زوجته نورة ابنة عبد الله بن رشيد, وذلك حينما أرسلت نورة بنت عبد الله تستنجد بأخيها الأمير محمد, فتحرك محمد بن رشيد بقواته إلى الرياض ليفك أسر عبد الله بن تركي زوجته ويعتقل ولده العاق المتمرد تركي.

« كانت نورة شقيقة [محمد] ابن رشيد المحبوبة ورفيقة صباه، والتي اشتهر جمالها عبر الجزيرة العربية حتى أثناء هذه الأحداث قد تزوجت من عبد الله بن فيصل أمير الرياض الذي خُلع عن العرش للمرة الأولى في عام 1872م، وتم سجنه مع زوجته نورة في برج بواسطة ابنهما (تركي) وكانا سيموتان من الجوع. إلا أن نورة على أية حال تمكنت من إخطار شقيقها عن مأزقهم المأسوي وذلك بمساعدة رسول بعثته على ظهر جواد. في تلك الأثناء تصادف أن كان ابن رشيد في جوار مدينة شقراء. وبما انه كان قادراً على الوصول إلى الرياض بصورة عاجلة ومُفاجئة فهو لم يستطع أن ينقذ حياة شقيقته فحسب، بل نجح أيضاً في إعادة تنصيب الأمير عبد الله من موضع الرهينة لابنه غير المُطيع. ولم يدم هذا الأمر طويلاً، إذ تمَّ عزل عبد الله مرة ثانية بعد سنتين، وكان محظوظاً هذه المرة ليهرب إلى حائل حيث دخل في تحالف مع الأتراك.». [11]

وقد يسأل سائل؛ ما الذي سيجنيه هذا الطروادي (نسبة لحصان طروادة) حينما يشوه تاريخ ديرته ويطعن بتاريخ حكام حائل السابقين رغم انتمائه لقبيلة شمّر؟

الجواب: بكل بساطة خساسة .. وفي حائل يطلقون على الشخص العفن الانتهازي نعت خاص بهم فيقولون عنه (خسيس لحية). ولهذا سيُلاحقه هذا اللقب حتى مماته.

كذلك هناك عداوات وأضغان قديمة بين شيوخ عشيرته وبين آل رشيد فربما أراد أن ينفس عن أحقاده. ناهيك عن لهثه خلف المال والشهرة وقد وفروا له في "دارة عبد العزيز" تلك المُميزات الدنيوية لكنه خسر نفسه وخسر ربعه وجماعته.

لا أستطيع أن استمر أكثر في تفنيد تلك الاكاذيب التي وردت على لسان الطريفي؛ لأني لو فعلت ذلك, سوف يتحول المقال إلى كتاب كامل. ومن أراد منكم الاستزادة بالمعلومات أكثر فيتصفح كتاب "الوهابية دين سعودي" في الفصل الخاص بإمارة حائل, ففيه مزيد من التوسع وتعدد المصادر.

رابط النسخة الإلكترونية المنقحة والمزيدة للكتاب :

https://payhip.com/b/W8ZT

وأخيراً الخزي والعار للخونة والفجار أينما كانوا.

 


فخري باشا يستقبل أمير حائل الشاب سعود بن عبد العزيز الرشيد في محطة قطار المدينة المنورة.



[1] تسجيل صوتي مُفرغ من شريط كاسيت للراوية الحائلي عبدالرحمن المرشد عن تاريخ حائل وإمارة الجربا.

[2] كتاب : كتاب : أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم \ تأليف: البشاري شمس الدين محمد بن أبو بكر البناء الشامي المقدسي.

[3] كتاب : عنوان المجد في تاريخ نجد \ للمؤرخ النجدي عثمان بن بشر.

[4] كتاب: وسط الجزيرة العربية وشرقها 1862-1863م \ للرحالة الإنجليزي وليم جيفورد بالجريف.

* ربما خلط هذا الضابط العثماني بالمعلومات بين ما مر به الأمير عبد الله بن رشيد في رحلته إلى الرياض, وبين ما مر به ولده محمد. لأن هذا الضابط العثماني دوّن تلك المعلومات في عهد سعود بن عبد العزيز الرشيد.

[5] كتاب : مُذكرات ضابط عثماني في نجد - الأوضاع العامة في منطقة نجد \ تأليف: حسين حسني.

[6] كتاب : صور من شمالي جزيرة العرب – في منتصف القرن التاسع عشر \ تأليف: جورج أوغست ڨالين.

[7] كتاب : عنوان المجد في تاريخ نجد \ للمؤرخ النجدي عثمان بن بشر.

[8] كتاب : نبذة تاريخية عن نجد \ كتبها: وديع البستاني، نقلاً عن الأمير ضاري بن فهيد آل رشيد.

[9] كتاب : عنوان المجد في تاريخ نجد \ للمؤرخ النجدي عثمان بن بشر.

[10] كتاب : نبذة تاريخية عن نجد \ كتبها : وديع البستاني ، نقلاً عن الأمير ضاري بن فهيد آل رشيد.

[11] كتاب: الأوضاع السياسية في وسط الجزيرة العربية عند نهاية القرن التاسع عشر \ تأليف: البارون ادوارد نولده.